سلاح النظرية
حري بالذكر بأن أميلكار كابرال وغسان كنفاني ينتميان إلى الجيل الثاني من القادة المناهضين للاستعمار كانوا قد برزوا على الساحة في خضم حركات الاستقلال، التي ميزت النصف الثاني من القرن العشرين. في المقال هذا سأبين بأن أوجه الشبه بين الرجلين لا تقتصر فحسب على وجود تداخل كبير بين اهتماماتهما الاساسية – خصوصًا فيما تعلق بالحاجة إلى تحليل نظري لمحدودية قيادة الموجة الأولى من حركات الاستقلال—بل تتعدى ذلك لتشمل التقارب في فهمهما لأهمية التحليل الاجتماعي، أو التحليل الطبقي، بشكل أدق، في صيرورة النضال من أجل التحرر من الاستعمار. فحينما اشار الرجلان إلى أن قادة الموجة الأولى من حركات الاستقلال لم يوفقوا في بلورة إيديولوجية ملائمة، كان المقصود من كلامهما هو فشل هؤلاء القادة في فهم البنية الاجتماعية لمجتمعاتهم، ذلك لأنهم لم يدركوا بأن التحرر من الاستعمار والاستعمار الجديد لم يكن دائما يصب في مصلحة جميع أفراد المجتمعات المستعمَرة. كما أن مناشداتهم لكيان غير مُكتمل المعالم يُشار له "بالشعب" كانت ستؤدي إلى نتائج عكسية، على الأرجح. وفي الحقيقة، فقد أشار كل من كابرال وكنفاني إلى وجود طبقات معلومة في مجتمعاتهم كانت قد استفادت ولا تزال من الاستعمار، وبالتالي لا يمكن العول على كسب دعمها في النضال ضد الاستعمار.
لقد حاجج كابرال بأن الإخفاقات والصعوبات التي واجهتها بعض البلدان الإفريقية التي نالت استقلالها بالفعل، نابعة، ولو جزئيًا، من افتقارها إلى توجيه نظري واضح. وكما جاء على لسانه، "إن القصور الإيديولوجي، إن لم يكن الافتقار التام للإيديولوجيا، لدى حركات التحرر — والذي يمكن تفسيره أساسًا بالجهل بالواقع التاريخي الذي تطمح هذه الحركات إلى تغييره — يشكل أحد أهم مكامن الضعف، إن لم يكن أكبرها في كفاحنا ضد الإمبريالية" (كابرال 1979 [1966]، ص 122). ومن المهم التأكيد هنا على أن كابرال لم يكن يزعم أن القصور الإيديولوجي لدى قادة الموجة الأولى من حركات الاستقلال هو التفسير الأساسي أو الأوحد للإخفاقات التي تعرضت لها بلدان إفريقية، مثل غانا. إذ كان كابرال يعي تمامًا أن هناك عوامل هيكلية عالمية ساهمت كذلك في هذه الإخفاقات. لقد تعرض قادة الموجة الأولى، في الواقع، لعدوان متوالي من قبل المستعمرين والمستعمرين الجدد، وهو العدوان الذي عانى منه كل من كابرال وكنفاني، وانتهى باغتيالهما في عامي 1973 و1972 على التوالي. ومع ذلك، يشير كابرال إلى أن هذه العناصر الهيكلية العالمية وآثارها، مثل قيام برجوازية كومبرادورية، لم تُستوعب بشكل كافٍ على المستوى الإيديولوجي النظري من قبل قيادة الموجة الأولى من حركات الاستقلال. وكان هذا الفشل النظري عاملاً إضافيًا ساهم في الإخفاقات التي شهدتها تلك الحركات.
هذا وقد توصلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (ج.ش.ت.ف) لنفس التشخيص، حيث كان كنفاني شخصية رئيسية في صياغة الخطاب النظري للجبهة. وفي أعقاب هزيمة 1967، اعتبرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن البرجوازية الصغيرة التي كانت تشرف على المشاريع التقدمية في مصر وسوريا، والتي وصفهاكنفاني "بالحكومات البرجوازية العسكرية الصغيرة“ (كنفاني 2024 [1970 أ]، 198)، كانت تعاني من قصور نظري، جعلها عاجزة عن صياغة استراتيجية وافية وكافية لشن حرب ناجعة من أجل تحقيق الاستقلال. كانت البرجوازية العسكرية الصغيرة تسعى لخوض حرب تقليدية (وكانت الحرب التقليدية آنذاك هي السبيل الوحيد المُتاح للحفاظ على موقفها السياسي)، دون أن تنتبه إلى أمر الفجوة التنموية الشاسعة التي كانت تفصل ما بين إسرائيل وداعميها الغربيين، من جهة، والفلسطينيين والدول العربية الحليفة، من جهة أخرى، والتي جعلت فرص كسب الحرب التقليدية ضئيلة للغاية (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، 96). ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تبني استراتيجية بديلة، ألا وهي حرب العصابات على غرار حرب فيتنام، وبالتالي الاقتداء بالنموذج الماوي (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، 99؛ كنفاني 2024 [1971]، ص 171 - 173). وما لبث ان انعكس التأثير الماوي هذا أيضًا على الاستراتيجية العسكرية للحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر (توماس 2021، ص 110).
وانصب اهتمام كل من كابرال وكنفاني الى الكيفية التي تتيح للتحليل الاجتماعي للمجتمعات المُستعمَرة، تفسير تاريخ النضالات التحررية، بنجاحاتها وإخفاقاتها، اعتمادا على التقسيم الطبقي لتلك المجتمعات. فقد كان كلاهما يعتقد بأن هذه النضالات يجب أن تُفهم على ضوء الوضع الطبقي لقيادة الحركات والمجموعات الشعبية التي تشكلت منها هذه الحركات، بما في ذلك كثلة المقاتلين. أما حجر زاوية المقارنة بين كنفاني وكابرال فيتجلى في استنادهما إلى المادية التاريخية في تحليل نقاط قوة وضعف الحركات السياسية المسؤولة عن الموجة الأولى من الاستقلال، من حيث تكوينها الطبقي. كما اعتمد كلاهما على المادية التاريخية في تحليل مجتمعيهما وأثر الاستعمار على مجتمع كل منهما، خصوصا فيما تعلق بتركيبته الطبقية الاجتماعية. وفي الواقع، وبالنظر إلى التقارب بين كابرال وكنفاني، من المعقول تماما الدفع بأن كابرال قد أثر على كنفاني. ولئن كان كنفاني لم يذكر كابرال صراحة. وتجدر الإشارة الى أن أعمال كابرال كانت متداولة في بيروت خلال الستينيات (طرابلسي 2022، ص 274). وعلاوة على ذلك، كانت أعمال كابرال معروفة في الأوساط الدولية التي نشط فيها كنفاني، مثل "رابطة الكتاب الأفرو-آسيويين." وبالتالي، لدينا ما يكفي من الاسباب للاعتقاد بأن الأدلة الظرفية تشير إلى تأثير محتمل لكابرال على كنفاني. وكما سيتَبيَّنُ لاحقا، يبدو أن بعض التحليلات الاجتماعية الواردة في كتابات كنفاني النظرية تتسق تمامًا مع التحليل الاجتماعي الذي قدمه كابرال في خطابه الشهير خلال الاجتماع الأول ل مؤتمر ثلاثي القاراتالمنعقد بهافانا في شهر يناير 1966.
المضمون السياسي للتضامن الإفريقي العربي
نشط كل من كابرال وكنفاني في فترة تميزت بتنامي التضامن العربي - الإفريقي. وقد تُوِّج هذا التضامن، في نهاية المطاف، بزيادة الدعم الإفريقي للدول العربية في صراعها مع إسرائيل، أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، بالموازاة مع زيادة الدعم العربي لحركات التحرر الإفريقي خلال نفس الفترة (الطيب، 1985)، كان كابرال نفسه مؤيدًا لحركات التضامن الإفريقي وحركات تضامن القارات الثلاث. ومع ذلك، فبالنسبة لكابرال، لا يمكن أن تقوم هذه الحركات على أساس عرقي محض، لأن التماثل العرقي، في وجهة نظره، لا يضمن التوافق السياسي بالضرورة.. ثم إن مجرد تعرض شعب مُعين للاستعمار لا يضمن تبني هذا الشعب لرد فعل سياسي معين. علاوة على ذلك، لا يمكن تصور اتحاد قائم على افتراض التماثل الثقافي أو القرابة بين الشعوب، وذلك لسببين: أولًا، وحتى لو انطلقنا من منظور إفريقي بحت، سنجد أنفسنا أمام "ثقافات إفريقية مختلفة" (كابرال، 1979 [1970]، ص 149). ثانيًا، وحتى داخل المجتمع الواحد، فالثقافة بعينها تتميز "بطابع طبقي" (كابرال، 1979 [1970]، ص 144).[1] وقد أثرت الطبيعة الطبقية للثقافة في سبل وكيفية استخدام الثقافة في مواجهة الاستعمار والرد عليه. وكان لكنفاني رأي مماثل بهذا الصدد (كنفاني، 2024 [1970 ب]، ص 147).
وبدلاً من ذلك، بحسب كابرال وكنفاني، فإن الوحدة المنشودة يجب أن تستند إلى استجابة سياسية معينة. وهذا ما تحقق فعلا في السياق التاريخيً. فإذا أخذنا القارة الإفريقية خلال عقد الستينيات، مثلا، سنجد أن الانشقاقات الرئيسية كانت على المستوى السياسي، وليس على مستوى الاختلاف العرقي. فعلى سبيل المثال، كانت الدول المنضوية تحت لواء "كثلة الدار البيضاء،" والتي كانت تنادي بمقاربة أكثر قوة ومُناهضة للإمبريالية، تتشكل من المغرب ومصر وغينيا ومالي والجزائر وغانا، في حين كانت الدول التي شكلت "كثلة مونروفيا" تضم كل من تونس وليبيا والسودان وليبيريا وكوت ديفوار والسنغال والكاميرون ونيجيريا. وهكذا، كان الانقسام يقوم على أسس سياسية واضحة، وليس على أسس عرقية أو ثقافية أو حتى لغوية (شعراوي 1984، ص 42).
وبحسب كابرال، فإن الوحدة التي تستحق أن تكون ينبغي أن تنطلق من الاتحاد مع حركات التحرر الأخرى، ذلك لأنها تعي جيدا بأنه "ما دامت الإمبريالية قائمة، فيتعين أن تكون السلطة في كل دولة إفريقية مستقلة بيد حركة تحررية، وإلا فلن تكون هذه الدولة مستقلة حقيقة" (كابرال 1979 [1972]، ص 116). وأما وجود حركة تحرر على مستوى السلطة فيعني أنها تدرك بأن السبيل الأوحد للحفاظ على استقلالها يكون من خلال العمل المنهجي لصالح الطبقات التي لها المصلحة الأكبر في تثبيط الإمبريالية، مثل الفلاحين والعمال. وهذا ما كان يقصده كنفاني عندما تحدث عن الاستسلام الطبقي كعامل مساعد للاستسلام القومي (كنفاني 2024 [1970 ب]، ص 146). وعليه، وحتى وإن كان من الممكن تصور الوحدة الأفرو-عربية، لزم أن تقوم هذه الوحدة على فهم دقيق للأساس السياسي المُتوافق عليه لحل المشاكل المطروحة من قبل كل من الاستعمار والاستعمار الجديد. ومن هنا تتجلى أهمية هذه النقطة في فهم مواقف الدول العربية والإفريقية المختلفة من الإبادة الجماعية الجارية حاليا في غزة، على سبيل المثال. ومن منظور التحليل الذي يقدمه كابرال وكنفاني، لا فائدة تُرجى من القاء اللائمة على بعض الدول العربية بداعي خيانتها "لذوي القربى". ذلك لأن هذه اللغة الأخلاقية تحجب النظر عن العلاقة بين المصالح الطبقية، التي تهيمن على هذه الدول، ومواقفها من قضية فلسطين. وبالمقابل، ما قد يبدو مستغربًا للغاية ويستدعي التفسير هو دعم الطبقات الحاكمة في بعض الدول العربية لنضال قائم ضد نظام عالمي يُعتبر الحامي لمصالحها. وفي الواقع، لو حدث ذلك، فسيتبين أن القرابة العرقية والثقافية أعلى شأنا من المصالح الطبقية، وهو، بالتالي، ما سيُثبت مكمن الخطأ في نظرية كابرال وكنفاني.
كابرال عن فلسطين
كان موقف كابرال من فلسطين معروفًا في العالم العربي، ومن غير المُستبعد أن يكون كنفاني قد اطلع على آراء كابرال حول القضية الفلسطينية من خلال تصريحاته المتواترة بخصوصها. فقد كان كابرال يؤيد النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال بشكل علني، وكان يرى أن استخدام بعض أشكال العنف لتحقيق هذه الغاية مبررًا. وكما جاء على لسانه: "نحن مع اللاجئين الفلسطينيين شهداء العذاب، الذين تعرضوا لخداع تلاه الطرد من وطنهم بفعل المناورات الإمبريالية. إننا نقف إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين، ونؤيد بكل إخلاص ما يقوم به أبناء فلسطين من أجل تحرير بلادهم. كما نؤيد الدول العربية والإفريقية، عامة، في دعمها للشعب الفلسطيني من أجل استعادة كرامته واستقلاله وحقه في الحياة" (كابرال 1969 [1965]، ص 82).
كان كابرال يدرك بأن إسرائيل كانت جزءًا من نظام إمبريالي عالمي، وأن الغرض من وراء قيامها هو تنفيذ املاءات الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت تستخدم كأداة لعرقلة نشاط الحركات التحررية في المنطقة العربية وفي القارة الإفريقية بشكل عام. وكما صرح كابرال بذلك:
"مبدؤنا الأساسي هو الدفاع عن القضايا العادلة... وبناءً على هذا، نعتقد أن إنشاء إسرائيل، الذي تم بتوجيه من الدول الإمبريالية للحفاظ على هيمنتها في الشرق الأوسط، جاء كخطوة مصطنعة تهدف إلى إثارة الفوضى في تلك المنطقة الحيوية من العالم. أما موقفنا فهو كالتالي: للشعب اليهودي، الذي يدين باليهودية، الحق في العيش، وقد عاش اليهود في سلام في مختلف أنحاء العالم. كما أننا نتأسف بشدة لما فعله النازيون بالشعب اليهودي، حيث أباد هتلر وأزلامه ما يقرب من ستة ملايين يهودي خلال الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، نعتقد أن هذا لا يمنحهم الحق في احتلال أي جزء من الأراضي العربية. فنحن نؤمن بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، ومن ثم فإن كل الإجراءات التي اتخذتها الشعوب العربية والأمة العربية لاستعادة الأراضي الفلسطينية هي إجراءات مبررة."
"في هذا النزاع الذي يهدد السلام العالمي، نؤكد دعمنا الكامل للشعوب العربية، ومن دون أي قيد أو شرط. نحن لا نرغب في الحرب، بالطبع، ولكننا نؤمن بضرورة نيل الشعوب العربية لحريتها، شأنها في ذلك شأن الشعب الفلسطيني. كما نؤكد على ضرورة تحرير الأمة العربية من الهيمنة الإمبريالية التي باتت إسرائيل تشكل أحد تجلياتها، مع ما يُرافق كل ذلك من اضطرابات" (كابرال 1968، 125، مُقتبس من جورج، غير مؤرخ، ص. 22).
يثير نقاش كابرال عدة نقط جديرة بالذكر. بادئ ذي بدأ، قوله بخصوص القضية الفلسطينية يجب أن يُفهم في إطار مبدأ حق الشعب المُستعمَر في تقرير مصيره، بمعنى أن يكون الشعب قادراً على صنع تاريخه بشكل جماعي دون العائق الجلي والمتمثل في الاستعمار. وعليه فإن إقامة دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين، حينما كان الاستعمار في طريقه إلى الزوال، لم يكن ليشوش على تفكير كابرال، على الرغم من أن الحدث كان قد أربك الكثيرين خلال تلك الفترة، كما أشار الى ذلك فايز صايغ (صايغ، 1970). ثانيًا، هناك الادعاء بأن جميع التدابير التي اتخذها الفلسطينيون والشعوب المتحالفة معهم لتجاوز الوضع الاستعماري لها ما يبررها. ولئن انبرى كابرال الى الرأي القائل بأن ”كل التدابير التي اتخذها الشعب العربي مبررة“ فهذا لا يعني بأن كل تدبير قد يتخذه الشعب العربي مُبرر بالضرورة، بل المقصود من كلامه، على الأرجح، هو أن التدابير التي اتُخذت لغاية تلك الفترة الزمنية (التي توافقت مع زمن القاء الخطاب في 1968) لها ما يبررها، بما في ذلك، العمليات الفدائية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية. هذا وقد كان كابرال بنفسه يعتقد بأن هناك معايير ومبادئ يجب الالتزام بها، حتى وان تعلق الأمر بحروب التحرير، كما يفيد بذلك الطريقة التي عامل بها أسرى حرب برتغاليين ابان حرب التحرير بغينيا بيساو (كابرال 1969 [1968]، ص. 127 - 130).
ومع ذلك، تبقى النقطة العالقة، وفقاً لكابرال، هي ما إذا كان استخدام أشكال معينة من العنف لتجاوز الوضع الاستعماري له ما يُبرِّره. ولئن لم يتوسع كابرال في هذه المسألة، إلا انه بالإمكان إعادة بناء منطق كلامه من خلال إيلاء ما يكفي من اهتمام للسياق العام. أولاً، من الواضح أن كابرال لا يؤيد المعاناة والعنف بشكل عام، ناهيك عن العنف من أجل العنف. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل بأنه في ظل الوضع الاستعماري السائد، حيث يُستخدم العنف الممنهج بلا هوادة، ليس من النادر أن يكون العنف المُركَّز (او المُروع، على الأصح) ضروريًا من أجل قلب الوضع الراهن وإرساء نمط للوجود الاجتماعي والسياسي يتسم بعنف أقل وطأة. وبالفعل، كان هذا هو الدرس المُستفاد من قبل العديد من المثقفين والقادة المناهضين للاستعمار جراء التجربة التاريخية للجزائر مطلع ستينيات القرن الماضي (يونغ 2001، 293 - 307). وكان كابرال يرى بأنه من غير المنطقي التسليم بحق شخص في شيء وانكار حقه في الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من الحصول على ذلك الشيء المُستحق.[2] علاوة على ذلك، فإن تبرير العنف لا يقوم على وعد بمدينة مستقبلية فاضلة قابلة للتحقق خلال مرحلة ما بعد الاستعمار. بل يستند التبرير أساسًا إلى حقيقة وهي أن العنف والتهديد بالعنف من قبل الطرف المُستعمَر يمكن، في كثير من الأحيان، من تخفيف شدة العنف المُمنهج الذي يمارسه الطرف المُستعمِر، كما يقلل من عمليات نزع الملكية من خلال إجبار المستعمرين على تقديم تنازلات.
وعطفا على ما سبق، كان كابرال وغيره من المثقفين المشاركين في "تريكونتيننتال" (أو مجلة القارات الثلاث) يقرون بأن حركات الاستقلال التي تعتمد اللاعنف منهجا قد حققت بالفعل بعض المكاسب في أماكن معينة من العالم (مثل غانا والهند)، إلا أن فاعلية اللاعنف كوسيلة كانت تتوقف، والى حد بعيد، على مدى قابلية القوى الاستعمارية والهياكل القانونية السائدة في المستعمرة للاستجابة لمطالبها. هكذا، وعلى سبيل المثال، كان من نتائج الرفض المتكرر للالتماسات التي قدمتها النخبة الفلسطينية إلى مسؤولي الانتداب البريطاني أن أدركت عناصر من القيادة الفلسطينية أنه، والحال كذلك، "لا طائل من وراء ممارسة السياسة من دون شيء من العنف" (هيوز 2019، 96). وعلى العموم، من المهم عدم الخلط بين حقيقة اختيار قوة احتلال أو قوة قمعية التفاوض مع فصيل غير عنيف من حركة مقاومة (التي غالبا ما تضم عناصر تؤيد استعمال العنف، أيضا)، والادعاء بأن الفصيل غير العنيف وحده الكفيل بحمل قوة الاحتلال أو القوة القمعية على القبول بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، حتى ولو لم تكن هناك فصائل عنيفة أخرى تُناضل من أجل تغيير الوضع القائم. وحتى لو افترضنا عدم وجود فصائل عنيفة ضمن حركة تحرر معينة، فإنه من السذاجة الاعتقاد بأن استجابة السلطات الاستعمارية في مجتمع ما لا تشي بوعيها بوجود حركات تؤمن باستخدام العنف من أجل الاستقلال في أماكن أخرى. وعليه، لا ينبغي النظر إلى استقلال الهند على أنه جاء نتيجة لحركة غاندي اللاعنفية، بل يجب أن يُفهم أيضًا أنه كان نتيجة للضغوط التي أحدثتها وأججتها الاضطرابات العنيفة في شبه القارة نفسها، بالإضافة إلى الوهن الذي طال الإمبراطورية البريطانية، بفعل الحرب العالمية الثانية، وكذا سلسلة الانتفاضات العنيفة التي عصفت بالإمبراطورية البريطانية، والتي استهلتها "انتفاضة عيد الفصح" بإيرلندا عام 1916 (لوسوردو 2015، ص. 106 - 107). وببساطة، إذن، لا يمكننا في غياب حجج مقنعة، تقديم حركة غاندي اللاعنفية باعتبارها العامل الكافي الوحيد لنيل استقلال الهند، ونغض النظر عن العوامل الفاعلة الأخرى التي ساهمت في الحصول عليه.
منظور الطبقية: الوحدة والتشرذم
أكد كل من كنفاني وكابرال على أهمية فهم المسار التاريخي للمقاومة ضد الاستعمار من منظور التحليل الطبقي. ويتجلى ذلك من خلال دراسة كنفاني لثورة 1936 وتحليل كابرال للبنية الاجتماعية في غينيا بيساو والرأس الأخضر. هذا وقد أشار كنفاني إلى أن القسم الأكبر من المقاتلين في انتفاضتي 1929 و1933، اللتين سبقتا ثورة 1936، كان يتشكل من الفلاحين أصحاب الحيازات الصغيرة الذين اضطروا في كثير من الأحيان لبيع أراضيهم إلى كبار الملاك العرب من أجل شراء الأسلحة والذخيرة. وأضاف بأن بعض كبار الملاك العرب كانوا بدورهم يبيعون الأراضي للمستوطنين اليهود في بعض الأحيان (كنفاني، 2014 [1972]، ص. 34). من هنا، قام كنفاني بتحليل العلاقة بين بعض الطبقات الاجتماعية في فلسطين ومصالحها التي كانت تتناقض مع مصالح صغار الفلاحين ونضالهم من أجل التحرر من الاستعمار. وعلى نفس المنوال، أشار كنفاني إلى أن ضعف قيادة النخبة الفلسطينية التقليدية (من كبار ملاك الأراضي والتجار المنحدرين من العائلات الكبرى ذات القاعدة الحضرية)، التي كانت تدير أعمالها انطلاقا من المنفى، بدمشق أثناء ثورة 1936، جعلت "دور القيادة المحلية التي تعود أصولها الاجتماعية إلى الفلاحين الفقراء أبرز مما كان عليه في الفترات السابقة، حيث كانت هذه القيادة المحلية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفلاحين" (كنفاني، 2014 [1972]، ص. 92-93). وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن كنفاني يُحاج بأنه " في تاريخ النضال الفلسطيني بأسره، لم تكن الثورة المسلحة أقرب إلى النجاح مما كانت عليه في الأشهر التي امتدت من نهاية عام 1937 إلى بداية عام 1939" (كنفاني، 2014 [1972]، ص. 93).[3] وهذا قول مُوغل في الراديكالية؛ إذ يؤكد كنفاني أن الكفاح المسلح، الذي كان يُخاض كحرب شعبية ماوية تسعى إلى تطويق المراكز الحضرية انطلاقا من الريف، لم تكن له فرص جيدة للنجاح[4] إلا عندما كانت قيادة الكفاح تنحدر من صغار الفلاحين أو من أبنائهم المتعلمين الذين شكّلوا الشريحة الثورية من البرجوازية الصغيرة.
و المُلفت في تحليل كنفاني هو أنه، بخلاف بعض المفكرين (غير الماركسيين) العرب المعاصرين له، لم يركن الى التحليل الأخلاقي (اسوة بالتحليل الإسلامي الذي يفسر الفشل كنتيجة للإعراض عن الله)، بل فسّر قدرة القيادة المحلية على تعبئة الفلاحين استنادا إلى أصولهم الاجتماعية. أما فشل الثورة فيُعزى الى كون البريطانيين قد شنوا حملة وحشية وبالغة الفعّالية لقمع التمرد. كما أن القيادة المحلية الُمتحدرة من الأصول الفلاحية الفقيرة لم تتمكن من التحرر بالكامل من روابطها التنظيمية بالقيادة في المنفى، التي كانت تتشكل من النخبة الفلسطينية التقليدية. بالإضافة الى ذلك، ساهمت الأنظمة الملكية العربية في تقويض الثورة بشكل ممنهج، وذلك بالتنسيق مع البريطانيين (كنفاني، 2014 [1972]، ص. 88)، وهو الدور الذي استمرّت تلك الأنظمة في لعبه حتى العقد الحاسم من الستينيات (كنفاني، 2024 [1970ج]، ص. 247-259)، بل وما زالت تلعبه حتى في الوقت الراهن.
وبحسب كنفاني، لم يكن تحليل أسباب نجاحات وإخفاقات ثورة 1936 مجرد تحليل أكاديمي بحت، بل كان بمثابة نظرة متبصرة للوضع المعاصر. وهكذا، وفي إطار استراتيجية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ساعد كنفاني على صياغتها، بمعية كل من جورج حبش وباسل الكبيسي (بركات 2024)، تم وضع ما سُمي بـ "الرجعية العربية" في المركز الأول للخصوم: "في خضم معركة التحرر الحقيقية التي تخوضها الجماهير الشعبية للحد من النفوذ الإمبريالي في وطننا، اذ لا يسع للرجعية العربية إلا أن تدافع عن مصالحها الخاصة—وهي مصالح يتوقف استمرارها على بقاء الإمبريالية، وبالتالي لا يمكن لها أن تقف إلى جانب الجماهير في نضالها" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، 36). وعلى غرار ما ذهب إليه كابرال، واجهت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين معارضة عربية شديدة بخصوص سداد التحليل الطبقي في فهم المجتمعات العربية. إلا أن الجبهة الشعبية (التي كان كنفاني يلعب فيها دورًا فكريًا قياديًا) ردت على هذه الادعاءات بالقول بإنه بالرغم من أن التصور الكلاسيكي للطبقات في المجتمعات الحضرية قد لا ينطبق على المجتمعات العربية، الا أن هناك انقسامات طبقية واضحة المعالم في المجتمعات العربية، عمومًا، وفي المجتمع الفلسطيني خصوصًا. والدليل على ذلك هو أن "الغالبية الساحقة من المقاتلين هم أبناء العمال والفلاحين" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، ص. 45). وترى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأن هذه الطبقات "تشكل السواد الأعظم للشعب الفلسطيني، كما أن جميع المخيمات والقرى والأحياء الحضرية الفقيرة تعج بأفراد ينتمون لتلك الطبقات" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، ص. 47). وفي سياق وصفِه لمسار حركة القوميين العرب من القومية العربية التقدمية إلى الماركسية اللينينية الماركسية المتأثرة بالماوية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يشير كنفاني بنفسه إلى أن التجربة والتأمل التاريخي علّم أعضاء الجبهة بأنهم "لن يستطيعوا كسب الحرب ضد الإمبريالية ما لم يعتمدوا في كفاحهم على طبقات معينة من المجتمع: ذلك لأن تلك الطبقات تقاتل ضد الإمبريالية ليس فقط من أجل استرجاع كرامتها، بل أيضًا من أجل ضمان لقمة عيشها" (كنفاني 2024 [1972]، ص. 28). كان تحليل كنفاني الطبقي لثورة 1936 يرمي دوما لتوضيح موقف سياسي ذي صلة بالوضع الراهن. هذا ومن المتاح إجراء تحليل مُماثل لموقف السلطة الفلسطينية في رام الله من الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يجوز القول، اذن، بأنه كما حمل أبناء المخيمات عبء الثورة الفلسطينية خلال ثلاثينيات وستينيات القرن الماضي، فإن أبناء المخيمات بغزة وجنين يواصلون أداء الدور نفسه اليوم.
إسوة بكنفاني، يعتقد كابرال بأن الانتكاسات التي عانى منها الجيل الأول من قادة حركات الاستقلال مردها غياب التحليل الطبقي الملائم. ففي معرض إشادته ب"كوامي نكروما،" مثلا، يبرز كابرال مكانة "نكروما" كرمز للاستقلال الإفريقي، لكنه في الوقت ذاته يتساءل عن: "العوامل الاقتصادية والسياسية التي يَسَّرت 'خيانة' غانا، بالرغم من شخصية "نكروما" الفذة وشجاعته وعمله الإيجابي" (كابرال، 1979 [1972]، ص. 116). وعلى نحو أكثر تحديدًا، يصر كابرال على أنه يتعين التساؤل:
"إلى أي مدى كان نجاح 'خيانة' غانا مرتبطًا أو غير مرتبط بمسألة الصراع الطبقي، والتناقضات في البنية الاجتماعية، ودور الحزب والمؤسسات الأخرى، بما في ذلك القوات المسلحة، في إطار دولة حديثة العهد بالاستقلال؟ كما يحق لنا أن نتساءل أيضًا، إلى أي مدى كان نجاح 'خيانة' غانا مرتبطًا أو غير مرتبط بمسألة التعريف الصحيح لذلك الكيان الذي يصنع التاريخ، والمعروف بالشعب، وبخاصة، عمله اليومي دفاعًا عن انجازاته خلال فترة الاستقلال؟" (كابرال، 1979 [1972]، ص 116).
من الجلي أن كابرال كان يُثير نفس الأسئلة التي طرحها كنفاني بشأن ثورة 1936، وبخاصة، مسألة ما إذا كان من المنطقي فعلاً الحديث عن الشعب، ككل، باعتباره مُشارك في النضال ضد الاستعمار، وكذلك ما إذا كانت جميع الطبقات في المجتمع المُستعمَر تتقاسم المصالح ذاتها في إنهاء الاستعمار. رُبما كان كابرال يلمح إلى تأييد "نكروما" للاشتراكية الإفريقية كنظرية اجتماعية وسياسية كانت تنكر وجود الطبقات في المجتمعات الإفريقية وتُقلل من أهمية التحليل الطبقي لهذه المجتمعات (النابلسي، 2023). والحاصل أن "نكروما" نفسه ندد بالاشتراكية الإفريقية بعد الانقلاب الذي أطاح به (نكروما، 1967). وهكذا، فكابرال، شأنه في ذلك شأن كنفاني، يقرُّ بأن ما أعاق حركات التحرر هو غياب التحليل الاجتماعي الكافي والملائم. علاوة على ذلك، واسوة بكنفاني، حدد كابرال قِوَى التحرر في التحالف الحاصل بين الفلاحين والعمال، بالإضافة إلى ما يسميه كابرال ب"القطاع الثوري" من البرجوازية الصغيرة، أي المثقفين التقدميين، أمثال كابرال نفسه، (كابرال، 1979 [1966]، ص. 135). أما البرجوازية الصغيرة، بالنسبة لكابرال، فتضم المهندسين والمحامين والأطباء والمدرسين وغيرهم. لكن كابرال كان أيضا يعي بأن هذه البرجوازية الصغيرة خليقة بالانقلاب على المشروع التحرري. فهو يعتقد بأن سلطة الدولة تعتمد، في نهاية المطاف، على القوة الاقتصادية للطبقة الحاكمة. ولأن البرجوازية الصغيرة تُعوِزها هذه القوة الاقتصادية، فإنها لا تستطيع أن تصبح طبقة حاكمة (ولئن تأتى لها ذلك، وصارت طبقة حاكمة، ستكون كذلك بصفة مؤقتًة). وكما يقول كابرال: "التاريخ يشهد بأنه، مهما كانت أهمية الدور الذي لعبه الأفراد المنحدرون من البرجوازية الصغيرة في صيرورة الثورة، إلا أن هذه الطبقة لم تمسك أبدًا بزمام السلطة السياسية. ولا يمكنها ذلك أبدًا، بما أن السلطة السياسية (أي الدولة) تعتمد على الأسس والقدرات الاقتصادية التي تتوفر عليها الطبقة الحاكمة" (كابرال، 1979 [1966]، ص. 136). ويبقى السؤال القائم هو التالي: إذا كانت البرجوازية الصغيرة قادرة على قيادة الثورة ضد الاستعمار، ولكنها لا تستطيع أن تشكل الطبقة الحاكمة، فما هو مصيرها، يا تُرى؟ للإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا، أولاً، تحديد الجهة التي تمتلك (أو يمكن أن تمتلك) السلطة الاقتصادية التي تشكل أساس السلطة السياسية، سواء تعلق الأمر بالوضعية الاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية. وبحسب لكابرال، فإن السلطة الاقتصادية "محتكرة من قبل كيانين إثنين: رأس المال الإمبريالي وطبقات العمال [والفلاحين] المحليين" (كابرال، 1979 [1966]، ص. 136). وبالتالي، ليس أمام البرجوازية الصغيرة خيار ثالث، عدا الوقوف إلى جانب أحد هذين الكيانين. وبحسب كابرال، يمكن للبرجوازية الصغيرة إما أن تختار "الانتحار كطبقة" (كابرال، 1979 [1966]، ص. 136) وذلك بالتخلي عن سلطة الدولة لصالح الفلاحين والعمال، أو أن تختار التحالف مع "رأس المال الإمبريالي."
والُمثير بشكل خاص هنا هو أن كابرال يعتقد أن هذا الخيار لا يمكن التعبير عنه بأي عبارات أخرى خلا تلك المرتبطة بالأخلاق. وكما يقول في هذا السياق: "إذا كان التحرر الوطني مسألة سياسية في جوهرها، فإن شروط تطوره تكتسب خصائص معينة تصب كلها في المجال الأخلاقي" (كابرال 1979 [1966]، ص. 136). وبعبارة أخرى، يمكننا القول بإن كابرال أدرك أن الاستناد إلى المصلحة الذاتية وحده لا يكفي لضمان عدم تحول البرجوازية الصغيرة إلى عملاء للإمبريالية.[5] ومن ثم، ولئن كان كابرال يتحاشى التفسيرات الأخلاقية بشكل عام، إلا أنه اقر بأنه، في الجوهر، وفي سياق النضال التحرري لا محيد عن التطرق إلى القضايا الأخلاقية الرئيسية.
من الواضح أن كابرال كان يلمح إلى القرار الذي واجهته العديد من حركات التحرر بعد الاستقلال. وعطفا على ذلك، كان يشير الى الوضع الذي كانت ولا تزال البرجوازية الصغيرة تعيشه في فلسطين. كما أن كنفاني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد أشارا أيضًا الى المشكلات النابعة من قيادة شريحة من البرجوازية الصغيرة لتحالف العمال والفلاحين ضد إسرائيل. وفي الواقع، فإن التحليل الذي قدمه كنفاني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جاء متطابقا إلى حد كبير مع التحليل الذي كان كابرال قد قدمه منذ ثلاث سنوات خلت في هافانا حينما قال:
"لعل السبب في وجود البرجوازية الصغيرة على رأس الحركة الوطنية الفلسطينية هو أن هذه الطبقة كانت قد شكلت إحدى مكونات الثورة، إبان مراحل التحرر الوطني. إضافة إلى ذلك، فإن حجمها العددي معتبر نسبيًا. ثم أنها، وبحكم ظروفها الطبقية، تمتلك حظا من المعرفة والقوة. وبالتالي، وفي سياق لا تتطور فيه أوضاع الطبقة العاملة بما فيه الكفاية من حيث الوعي السياسي والتنظيم، من الطبيعي أن تستأثر البرجوازية الصغيرة بتحالف الطبقات المناهضة لإسرائيل والإمبريالية وكذا الرجعية العربية" (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، ص. 54)
ويرى كابرال أيضًا أن الحركة الوطنية يجب أن تقودها البرجوازية الصغيرة، في المراحل الأولى على الأقل، لأنها الطبقة الوحيدة التي لها مصلحة حقيقية في تصفية الاستعمار، ولديها القدرة على فهم طبيعة الوضع القائم بسبب "مستوى معيشتها الأعلى، وتعرضها للإذلال الموصول، ودرجة تعلمها وثقافتها السياسية الأرقى، مقارنة بالعامة" (كابرال 1979 [1966]، ص. 135). كما يعتبر بأن الفلاحين يشكلون الفئة الاجتماعية التي "لها المصلحة الأوفر في النضال"، لكنها لا تستطيع إدراك هذه الحقيقة بمفردها (كابرال 1969 [1964]، ص. 60). ويؤكد كنفاني أيضًا على الدور الكبير الذي لعبه المثقفون في تاريخ الثورات الفلسطينية قبل تأسيس دولة إسرائيل، وهو ما يتسق مع ما ذهب إليه كابرال، حيث استخدم عبارات مماثلة في هذا السياق (كنفاني 2014 [1972]، ص. 48). ومع ذلك، كان كابرال، شأنه في ذلك شأن كنفاني وأعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يعتبر البرجوازية الصغيرة حليفًا متذبذبًا، ولذلك فقد حذَّر رُواد الجبهة من الخضوع لقيادة هذه الطبقة (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 2017 [1969]، ص. 53 - 55)، فكنفاني يرى بأن تفويض أمر القيادة للبرجوازية الصغيرة (أو البرجوازية الكومبرادورية) يعني تصفية المشروع القومي بالكامل، وكما جاء على لسانه: "عندما تُقرّ النظرية الثورية بأن الاستسلام الطبقي يعتبر العامل المساعد للاستسلام القومي [العربي]، وأن الاستسلام القومي يوفر شروط فرض الاستسلام الطبقي، فإن التنظيم لا يسعه إلا أن يعطي الأولوية للامتدادات العمالية والفلاحية" (كنفاني 2024 [1970 ب]، ص. 146).
من الجلي إذن أن صياغة كابرال وكنفاني للخيار المتاح للبرجوازية الصغيرة كانت دقيقة وصائبة فيما تعلق بحالة فلسطين. فمن جهة، يمكن القول بأنه هناك نفر من البرجوازية الصغيرة، أمثال كنفاني وحبش، قد اختاروا "الانتحار الطبقي"، ومن جهة أخرى، هناك أفراد آخرون من هذه الطبقة اختاروا خدمة "رأس المال الإمبريالي" بالوكالة، من خلال أدوارهم كقادة وموظفين في السلطة الفلسطينية (عجل 2024). وفي هذا السياق، تظل كتابات كابرال وكنفاني مهمة ليس فقط لفهم تطور الماركسية خلال ستينيات القرن الماضي، بل أيضًا لفهم لحظتنا المعاصرة. وخلاصة القول، فإن التضامن الأفرو-عربي ممكن بالفعل، ولكنه يجب أن يستند إلى قاعدة سياسية واجتماعية واضحة، تتجاوز مجرد الحديث عن ضحية تعاني الكثير تحت نظام دولي إمبريالي عنصري.
الببليوغرافي
- عجل، ماكس، (2024).Palestine’s Great Flood )أو، ”طوفان فلسطين العظيم: الجزء الأول).“ الجنوب الزراعي: مجلة الاقتصاد السياسي 13، (1): ص 62 - 88.
- بركات، خالد. (2024)، Introduction: A Fundamentally Necessary Approach (”مقدمة: مقاربة ضرورية في الأساس“)، في Ghassan Kanafani: Selected Political Writings )أو، غسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة)، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 93 - 95. لندن: دار النشر بلوتو.
- كابرال، أميلكار. 1979 [1972]. Homage to Kwame Nkrumah in Unity and Struggles: Speeches and Writings of Amilcar Cabral (أو ”تحية لكوامي نكروما.“ في الوحدة والنضال: خطابات وكتابات أميلكار كابرال)، ترجمة مايكل وولفرز، ص. 114-118. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب.
- ----------------- ( 1979 [1970])، ) National Liberation and Culture”التحرر الوطني والثقافة.“) Unity and Struggles: Speeches and Writings of Amilcar Cabral ( أو، في الوحدة والنضال: خطابات وكتابات أميلكار كابرال)، ترجمة مايكل وولفرز، ص. 138 - 154. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب.
- -------------------(1968)، Determined to Resist”مصمم على المقاومة“. Tricontinental 8 (أو مجلة القارات الثلاث) سبتمبر-أكتوبر 1968، ص. 114-127.
- -------------------(1969 [1968])، “On Freeing Captured Portuguese Soldiers”(”حول تحرير الجنود البرتغاليين الأسرى) “ في Revolution in Guinea: Selected Texts by Amilcar Cabral (أو، الثورة في غينيا: نصوص مختارة لأميلكار كابرال)، ترجمة وتحرير ريتشارد هانديسايد، ص. 127 - 130. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب
- ------------------(1979 [1966])، “The Weapon of Theory: Presuppositions and Objectives of National Liberation in Relation to Social Structure,” (أو ”سلاح النظرية: الافتراضات المسبقة وأهداف التحرر الوطني في علاقتها بالبنية الاجتماعية.“) Unity and Struggles: Speeches and Writings of Amilcar Cabral (أو، الوحدة والنضال: خطابات وكتابات أميلكار كابرال)، ترجمة مايكل وولفرز، ص 119-137. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب.
- ------------------(1969 [1965])، “The National Movements of the Portuguese Colonies.””أو، الحركات الوطنية في المستعمرات البرتغالية“ في Revolution in Guinea: Selected Texts by Amilcar Cabral (أو، الثورة في غينيا: نصوص مختارة لأميلكار كابرال)، ترجمة وتحرير ريتشارد هانديسايد، ص. 76 - 85. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب.
- ------------------ (1969 [1964])، “Brief Analysis of the Social Structure in Guinea” ( أو، ”تحليل موجز للبنية الاجتماعية في غينيا“) في Revolution in Guinea: Selected Texts by Amilcar Cabral (أو، الثورة في غينيا: نصوص مختارة لأميلكار كابرال)، ترجمة وتحرير ريتشارد هانديسايد، ص. 56 - 75. نيويورك: دار نشر المراجعة الشهرية للكتب.
- النابلسي، زياد. (2023)،“Questions from the Dar-Es-Salaam Debates,”(أو،”أسئلة من مناظرات دار السلام“. في In Revolutionary Movements in Africa: An Untold Story (أو، الحركات الثورية في إفريقيا: قصة غير مروية)، تحرير باسكال بيانشيني، وليو زيليغ، وندونغو سيلا، ص. 244 - 261. لندن: دار النشر بلوتو.
- ----------------- وعفيفة لطفي (2021)،”تاريخ إفريقيا و تأويل أميلكار كابرال للنظرية المادية التاريخية“. في ”الأممية الإفريقية: بَيْنَ الصراع الطَّبَقِيَّ وَالْانضواء العرقي،" تحرير كريبسو ديالو، ص. 283-304. 2021. القاهرة: مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر.
- الطيب، مدثر عبد الرحيم (1985)، “African Perceptions of the Arab-Israeli Conflict”(أو ”التصورات الإفريقية للصراع العربي الإسرائيلي“) في The Arabs and Africa (أو العرب وإفريقيا)، تحرير خير الدين حسيب، ص 344 - 366. لندن: دار النشر روتليدج.
- جورج، نيت.(غير مؤرخ) “In the Hour of Arab Revolution,” (أو ”في ساعة الثورة العربية“( في مجلة Tricontinental ثلاث القارات وقضية فلسطين. [مقال خطي غير منشور].
- هوندريتش، تيد (2007)،.) Terrorism in Palestine”الإرهاب في فلسطين“)،مجلة Think (أو، فكِّر)، 5 (14): ص. 7-22.
- هيوز، ماثيو. (2019)،Britain’s Pacification of Palestine: the British Army, the Colonial State, and the Arab Revolt, 1936-1939 (أو، تهدئة بريطانيا لفلسطين: الجيش البريطاني والدولة الاستعمارية والثورة العربية، 1936 – 1939)، كامبريدج: مطابع جامعة كامبريدج.
- كنفاني، غسان. (2024 [1972])، “On Childhood, Literature, Marxism, the Front and Al-Hadaf,” (أو، ”عن الطفولة والأدب والماركسية والجبهة والهدف“، في Ghassan Kanafani: Selected Political Writings (أو، غسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة)، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 21 - 38. لندن: دار النشر بلوتو.
- ------------------ (2014 [1972])، ثورات فلسطين، ص. 36-39، القاهرة: دار التقوى.
- ------------------( 2024 [1971])، “The Underlying Synthesis of the Revolution: Theses on the Organizational Weapon: Lenin, Mao Tse Tung, Hô Chi Minh, Stalin, Giap, Lukacs.”” (أو، "التركيبة الأساسية للثورة: أطروحات حول السلاح التنظيمي: لينين، ماوتسي تونغ، هتشيه مينه، ستالين، جياب، لوكاتش“ في Ghassan Kanafani: Selected Political Writings (أو، غسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة)، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 165 - 176. لندن: دار النشر بلوتو.
- -------------------- (2024 [1970a])، “A Conversation between the Sword and the Neck Ghassan Kanafani interviewed by ABC Journalist Richard Carlton,” (أو، ”حوار بين السيف والعنق": مقابلة مع غسان كنفاني أجراها الصحفي ريتشارد كارلتون من قناة ABC“) في Ghassan Kanafani: Selected Political Writings (أو، غسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة)، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 193 - 200. لندن: دار النشر بلوتو.
- ------------------- (2024 [1970b])، “The Resistance and Its Challenges: The View of the Popular Front for the Liberation of Palestine” (أو،”المقاومة وتحدياتها: رؤية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين“. في Ghassan Kanafani: Selected Political Writings (أو، غسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة)، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 121 - 164. لندن: دار النشر بلوتو.
- ---------------------- (2024 [1970c])، “The Secret Alliance between Saudi Arabia and Israel,” (أو، ”التحالف السري بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل“)، في Ghassan Kanafani: Selected Political Writingsغسان كنفاني: كتابات سياسية مختارة، تحرير لويس برهوني وتحرير حمدي، ص. 247 - 259. لندن: دار النشر بلوتو.
- لوسوردو، دومينيكو،(2015)، Non-Violence: A History Beyond the Myth (أو، اللاعنف: تاريخ ما وراء الأسطورة)، ترجمة غريغوري إليوت. نيويورك: ليكسينغتون.
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. (2017 [1969])، Popular Strategy for the Liberation of Palestine (أو، الاستراتيجية الشعبية لتحرير فلسطين)، أوتريخت: مطبعة اللغات الأجنبية.
- نكروما. كوامي، (1967)، Kwame Nkruma: African Socialism Revisited، (أو”إعادة النظر في الاشتراكية الإفريقية.“) https://www.marxists.org/subject/africa/nkrumah/1967/african-socialism-revisited.htm.
- صايغ، فايز، (1970). A Palestinian View (أو، نظرة فلسطينية). القاهرة: الاتحاد العام لطلبة فلسطين.
- شعراوي، حلمي، (1984)، العرب والإفريقيون وجها لوجه. القاهرة: دار الثقافة الجديدة.
- توماس، أنطونيو، (2021)، Amilcar Cabral: the Life of a Reluctant Nationalist (أو، أميلكار كابرال: حياة القومي المتردد). أكسفورد: مطابع جامعة أكسفورد.
- طرابلسي، فواز. (2022)، “Reading and Translating Gramsci in the 1970’s,”(أو ”قراءة وترجمة غرامشي في السبعينيات“) International Gramsci Journal 4, no.4: 274 - 281 (مجلة غرامشي الدولية)
- يونغ، روبرت ج. س. (2021)،Postcolonialism: An Historical Introduction (أو، ما بعد الاستعمار: مقدمة تاريخية). أكسفورد: دار النشر بلاكويل.