نشأت في منطقةصحراوية قاحلة. وكل شخص نشأ في بيئة صحراوية يعرف حق المعرفة بأن المناطق القاحلةتُساعد المرء على شحذ ملكة الملاحظة والدقة فيها.  فابن البيئة القاحلة قد يذكر جيدا ظهور نبات صغير خليق بان يُغيِّر مظهرالبيئة المحيطة. وقد يتحسَّسُ نسائم المطر من بعيد ويُدرك بأن الغيث في طريقه الىالبلدة. كما أن الأيام علمته بألا يشعر بالأمان في الأنهار الجافة، حتى في جوفالصيف، لأن الأمطار الغزيرة قد تَهطل بعيدا، وتُحدث فيضانات نهرية جارفة في أي وقتوحين.

قد يكون هذا ضربا منضروب العلم في بعض الأماكن، ولكن بالنسبة للبيئات الصحراوية، يُعتَبر هذا جزء منحياة الفرد ونتاج انغماسه الكامل في النظام البيئي في مجاله. فعندما تجود السماءبالمطر، تغمر قلب المرء السعادة لأنه سيرى عما قريب العشب والزهور وباقي النباتاتالصحراوية تكسو الاراضي. هذا الوعي المتبصر بالبيئة يسكن الفرد، ولا يفارقه أبدا—حتى ولو كان يعيش على بعد آلاف الأميال من الديار. وأَوَدُّ أن أشير هنا بأنالغياب عن الوطن لا يزيد من حس الملاحظة الا حدة ونفاذا.  عند العودة الى الديار، تزداد الرغبة في لقاء الأشخاص وتفقد الأماكنالمألوفة وإعادة ربط الصلة بها. ومن الطبيعي تماما أن يعود المهاجر إلى وطنه ويبحثعن أشخاص وأماكن كان قد تركها من وراءه. وبهذا الصدد، رصد الأنثروبولوجي عمر بومالعديد من التعقيدات التي تواكب العودة الى الوطن في مقالته المعنونة، "حولالعودة إلى الوطن: مرونة الهجرة"،قائلا: "إن المسافة الزمنية الفاصلة بين شد الرحال والعودة الى الديار غالباما تشهد تحولات ديموغرافية مُعتبرة في المجتمع، جراء أحداث شتى من قبيل الوفيات،والزيجات وازدياد أطفال. وبمقدار ما يكون هذا التحول البيولوجي طبيعيا وسلسا،بمقدار ما يكون أي تغيير طبوغرافي مُوحشا وقاسيا على العائد من الغربة."

وعلى الرغم من أننيكُنت على وعي بهذه الحقيقة الأساسية، إلا أنني لم أكن مستعدا لتجربة موحشة جاءتنتيجة لما لاحظت من تحول هائل طال قريتي في جنوب شرق المغرب عند عودتي للديار، بحرشهر ديسمبر 2022. هذا وكان الوباء الذي حل بالعالم قد اجبرني على تعليق زياراتيالسنوية لمسقط رأسي لمدة عامين ونصف، مما جعل التغييرات أكثر حدة ووضوحا. حتى الفراغ الرهيب الذي خلفته وفاةوالدتي في عام 2017 لم يوازي، في وطأته ووقعه، التغيير المذهل الذي أحدثه برجالطاقة الشمسية (الطاقة)، الذي يبلغ ارتفاعه مائتي متر، في محيطي المألوف أثناء غيابيالطويل. اعتدت أنا وعائلتي أن ننظر وادي درعة أثناء تناول وجبة الفطور من أعلى سطحمنزلنا. كان بإمكاننا مشاهدة جبالالأطلس والحقول الخضراء الزاهية وأشجار النخيل التي تشكل خطين أخضرين متوازيين علىامتداد نهر درعة.  كانت هذه الاوقاتتشكل الجزء المفضل لدي من عودتي إلى الديار. كان بوسعي احتساء الشاي المغربيوتناول "لمسمن" (او الرغيف المغربي) مع الجبن والمربى، والاستمتاع بالوقتالطويل الذي كنت اقضيه في تفحص المناظر الطبيعية الأخاذة التي كانت تمتد على حدالبصر. حتى المعالم المتواجدة وسط مدينة ورزازات كانت متاحة للرؤية من أعلى السطوح،وكانت المعلمة التاريخية البارزة – خزان المياهالخرساني - حتى وقت قريب، أعلى مبنى في المدينة. أما ما تبقى من البيئة المجاورةفكان عبارة عن منظر طبيعي متكامل ومتماسك تتسق فيه ألوان التربة المحمرة معالواحات الخضراء، والتي كانت بدورها تندمج بشكل جيد مع السرير الرملي والحصوي لنهردرعة الذي كان يعتريه الجفاف في معظم الأحيان. أما القصبات العديدة التي كانت تشرفعليها جبال الأطلس الزرقاء من بعيد، فكانت على هيئة حُرَّاس أشِدَّاء على أتماستعداد للنيل من أي شخص سَوَّلَت له نفسه بأن يُسيء التصرف في هذه الأرض التي تتعذروتصعب سبل الوصول إليها، وهي أرض لديها حكايات لا حصر لها لتَرْويهَا عن تاريخ لميُكتب بعد.

قلب محطة ورزازات للطاقة الشمسية (نشرت بإذن من شركة "نور"

التقيت ببُرج الطاقة الشمسيةوجها لوجه، لأول مرة خلال شهر دجنبر الماضي. وأدركت حينها أن مجال الرُؤية من أعلىسطح منزلي كان قد تغير إلى الأبد، ذلك لأن البرج المُرتفع للغاية التي تعلُوهمرايا حارقة، شبيهة بأداة قوية لتصليت النور يُهيمن على المنطقة بأكملها. عندمارأيته لأول مرة، ذكرني بالأبراج الذُّرية العالية التي تشيدها الدول النووية فيالصحاري، لتجربة ما ابتدعته من قنابل مدمرة وذلك بإسقاطها من علو شاهق على الخلاء.كُنت أعرف أنه ليس بُرجا ذُريًّا، الا أنني حيثما حللت وأينما أدَرْتُ وجهي، كنتأرى شيئا واحدا فقط: برج الطاقة الشمسية المُتوهِّج. لقد تَمَلَّك مشهدي البصريتماما، وهَيْمَنَ على الطبيعة بالكامل، وطَغَى على مناحي الحياة من حولنا والتيكانت، من دون شك، تَعُجُ ّبالنشاط. حتى عندما كنت أتَحَاشَى النظر نحو البرج، كانيَنظُر إلي ويُرسِل ُ انعكاسات ألسنة لهبه الحارقة في اتجاهي، مما أجبرني علىالتحديق فيه لفترة أطول لأتساءل عن مَدَى وَقْع النار المُلتهبة في أوقات ذروتها.

دفعني الظُّهورالمُفاجئ لهذا الهيكل القضيبي في مَجَالي الحَيَويِّ إلى التفكير أكثر في أهميتهبالنسبة للبيئة والأهالي الذين أضافوا الآن كلمة جديدة إلى سِجِلِّهِم. فأصبحت "الطاقة" (التيباتت تُستعمل في إشارة للطاقة والبرج) أمازيغية بامتياز، وبات المكان ذَاتِيّالاحَالَةِ لدرجة أن لا أحد الآن يُكلف نفسه عناء تعريفه. فعندما تنطق بكلمة"طاقة" فأنت حتما تقصد مزرعة الطاقة الشمسية والبرج والطاقة التي تنتجهاالمُنشاة. وأنت تقصد أيضا تلك البشاعة التي سلبت الانتباه البصري من ورزازات وكلما كانت المدينة تمثله أو تزخر به.

         تشير"الطاقة" باللغةالمحلية إلى مشروع "نور ورزازات الشمسي المحلي،" ولكن أيضا، وإن كان ذلكعن غير قصد، إلى مشروع وطني ذي أبعاد وتداعيات عابرة للحدود الوطنية على الطاقاتالمتجددة. وكما يظهر فيديو "سلاسل القيمة" المنشور على موقع يوتيوب، فقدتم إنشاء الوكالة المغربية للطاقة المستدامة(MASEN) في عام 2010 من أجل تسخير جميع الطاقات المتجددة في جميع أنحاء المغرب.وبحسب كتيبها المعنون، "مازن: قوة تنمية لا تَنضُب"، تسعى الوكالة إلىإنتاج 42٪ في مرحلة أولى، ثم 52٪ من الكهرباء، في مرحلة ثانية، بالمغرب بالاعتمادعلى مصادر مُتجددة. من منظور دُول الشَّمَال المُوغِلَةِ في العَوْلَمة، يُعتبرهذا الهدف نبيلا، بل جديرا بالثناء.  

التقيت ببُرج الطاقةالشمسية وجها لوجه، لأول مرة خلال شهر دجنبر الماضي. وأدركت حينها أن مجال الرُؤيةمن أعلى سطح منزلي كان قد تغير إلى الأبد، ذلك لأن البرج المُرتفع للغاية التيتعلُوه مرايا حارقة، شبيهة بأداة قوية لتصليت النور يُهيمن على المنطقة بأكملها.عندما رأيته لأول مرة، ذكرني بالأبراج الذُّرية العالية التي تشيدها الدول النوويةفي الصحاري، لتجربة ما ابتدعته من قنابل مدمرة وذلك بإسقاطها من علو شاهق علىالخلاء. كُنت أعرف أنه ليس بُرجا ذُريًّا، الا أنني حيثما حللت وأينما أدَرْتُوجهي، كنت أرى شيئا واحدا فقط: برج الطاقة الشمسية المُتوهِّج. لقد تَمَلَّك مشهديالبصري تماما، وهَيْمَنَ على الطبيعة بالكامل، وطَغَى على مناحي الحياة من حولناوالتي كانت، من دون شك، تَعُجُ ّبالنشاط. حتى عندما كنت أتَحَاشَى النظر نحوالبرج، كان يَنظُر إلي ويُرسِل ُ انعكاسات ألسنة لهبه الحارقة في اتجاهي، مماأجبرني على التحديق فيه لفترة أطول لأتساءل عن مَدَى وَقْع النار المُلتهبة فيأوقات ذروتها.

دفعني الظُّهورالمُفاجئ لهذا الهيكل القضيبي في مَجَالي الحَيَويِّ إلى التفكير أكثر في أهميتهبالنسبة للبيئة والأهالي الذين أضافوا الآن كلمة جديدة إلى سِجِلِّهِم. فأصبحت "الطاقة" (التيباتت تُستعمل في إشارة للطاقة والبرج) أمازيغية بامتياز، وبات المكان ذَاتِيّالاحَالَةِ لدرجة أن لا أحد الآن يُكلف نفسه عناء تعريفه. فعندما تنطق بكلمة"طاقة" فأنت حتما تقصد مزرعة الطاقة الشمسية والبرج والطاقة التي تنتجهاالمُنشاة. وأنت تقصد أيضا تلك البشاعة التي سلبت الانتباه البصري من ورزازات وكلما كانت المدينة تمثله أو تزخر به.

         تشير"الطاقة" باللغةالمحلية إلى مشروع "نور ورزازات الشمسي المحلي،" ولكن أيضا، وإن كان ذلكعن غير قصد، إلى مشروع وطني ذي أبعاد وتداعيات عابرة للحدود الوطنية على الطاقاتالمتجددة. وكما يظهر فيديو "سلاسل القيمة" المنشور على موقع يوتيوب، فقدتم إنشاء الوكالة المغربية للطاقة المستدامة(MASEN) في عام 2010 من أجل تسخير جميع الطاقات المتجددة في جميع أنحاء المغرب.وبحسب كتيبها المعنون، "مازن: قوة تنمية لا تَنضُب"، تسعى الوكالة إلىإنتاج 42٪ في مرحلة أولى، ثم 52٪ من الكهرباء، في مرحلة ثانية، بالمغرب بالاعتمادعلى مصادر مُتجددة. من منظور دُول الشَّمَال المُوغِلَةِ في العَوْلَمة، يُعتبرهذا الهدف نبيلا، بل جديرا بالثناء.

صورة مركب نور من خلال الأقمار الاصطناعية

هناك قول مأثورمَفَادُه أنه بوسع المرء إخفاء الجوع، الا انه لا يمكنه إخفاء التشرد. ويؤكد هذا المثل على أهمية وجود مكانللعيش فيه. فالأراضي الجماعية التي تم توزيعها بين أفراد الجماعة–وبِغَضِّ النظر على جميع المشاكل التي نَجَمَت عن المَحسُوبية داخل الجماعةوديناميكيات الصِّرَاعَات الداخلية على السلطة—وفرت للجميع شبكةأمان اجتماعية. ومن المُتَعَارَفِ عليه أن الأرض والماء كانا دوما ضروريين لأيوجود مُسْتَدَام في المجتمع الصحراوي أينما وُجِد. الا انه مع مطلع الالفيةالثالثة، أمست العديد من المجتمعات القروية تَفْقِد الأراضي الموروثة عن الأجداد بسببخُطط الاستثمار التي جردت الكثير من الناس من ممتلكاتهم في الجنوب الشرقي للبلاد.ويُمكن القول بأن العملية كانت قد بدأت خلال الفترة التي سبقت أواخر القرن العشرين،لاسيما في المناطق التي كانت تضم أراضي ذات قيمة عالية. ظَهرت ملامح الحكم عن طريقالسيطرة على الأرض في أَوَائِل تسعينيات القرن العشرين في جِهات مُختلفة، حيثأَحْجَمَ أَعْوَانُ الدَّوْلَة على فَظِّ النزاعات البسيطة داخل الجماعات وتركوهامن دون حل، وبخاصة داخل المجالات القروية الغنية بأراضي قابلة للاستغلال. ويبدو أنالإبقاء على عوامل الاختلاف والنزاع بين الأفراد كما هي من دون العمل على فضها،كان الهدفُ من وَرَائه هو مُصَادَرِة أرَاضِيهم القَيِّمَة. ولم تَتَّضِحُ أسبابعَدَم حَلِّ الخِلَافَاتِ التقنية على الأراضي في المجتمعات الغنية بأراضيها إلامُؤَخَّرا. يتعلق الأمر، إذن، باستراتيجية لتسهيل مُصادرة أراضي الأهالي الموروثةعن الأسْلاَفِ، وهي أراضي تُوَزَّعُ الآن على المُستثمرين الأثرياء الذينيُبَادِرون الى تحويلها إلى مَشاريع مُربحة.ونتيجة لذلك، فإن الأغنياء يزدادون ثراء، في حين أن أحفاد مالكي الأراضيبَاتَ مَحْكُوم عليهم مستقبلا بإعادة شرائها من أحفاد مُغتصبي تلك الأراضي.

وبعيدا عن قضاياالأرض ونزع ملكية المجتمعات المحلية، فإن الوُجود المهمين للطاقة يُسيطر على هوية"ورزازات". فَسَوَاء كَانَت "ورزازات" محطة انطلاق المرء أووجهته، فإنَّ بُرج الطاقة الشمسية هو أول ما تَرَاهُ العين من مطار المدينة. فخلالالنهار، يعمل هيكل "البانوبتيكون" (الشبيه ببُرج المُراقبة بالسجن) هذا،الذي مَاثَلَتْهُ زوجتي ب "عين سورون"، أو العين الرَبَّانية ذَات مَجالرُؤية بزاوية 360 درجة التي تتواجد بكل مكان. أيا كان مقصدي، فإن البرج مُلازِملي، كما لو كان يُذَكِّرُنِي بأن المجال الذي عرفته طوال حياتي لم يعد كما كَانعَلَيْهِ في سَابِقِ عَهْدِهِ. فالبَحْر الذي تعلوه ألْوَاحٌ شمسية، ابدعتها مهاراتهندسية مغربية بارعة، اعتمادا على أحدث التكنولوجيات الأوروبية وعلى تمويل المستثمرينالرأسماليين المُغامرين مُتعَدِّدِي الجنسيات، مًا لَبِثَ أن ابتلع8000 فدان منالأراضي الجماعية المُترامية الأطراف. وأضحى ما كان في يوم من الأيام أراضيرَعَوِيَّة، ومَجَالًا مُحْتَمَلًا لأنشطة مُختلفة من زراعة وبناء، مزرعة يَجْثُم عليهاهيكل تكنولوجي هائل وبعيد المدى يُحَوِّل أشعة الشمس إلى كهرباء. وأمست الطبيعة المَهِيبةللهيكل تُلهم الرهبة. عند النظر إلى "الطاقة" في هذه البيئة الشبه صحراوية،فإن المرء يتمتع بحُضورٍ شامخ يُبهر أعين كل من لم يشهد منشأة تقنية بهذا الحجم فيبيئته. 

لا يختلف بُرج "الطاقة" عن المشاريعالمُختلفة التي تتخذ الصحراء مركزا لها في أنحاء مختلفة من العالم. بدءًا منكاليفورنيا، حيث وَضَعَت وزارة تدبير المجال الترابي في الولايات المتحدة خطةللاستعمال المُستدام للطاقة الصحراوية المتجددة لتوليد الكهرباء وانتهاءً بغربالمملكة العربية السعودية، حيث تَعْكف الدولة حاليا على تشييد مدينة"نيوم" الصحراوية. كل هذه الأساليب المختلفة لها تاريخ طويل فيتَمَثُّلِ الصحاري كمَجَالَات للريادة في الاستكشاف والاختبارات والتجاربالمتسابقة نحو الريادة.

إن الاستصحار أو الخيالالذي يَرتَكِز على المَجَال الصحراوي، الذي أُجْزِمُ بأَنَّهُ يُؤَسِّسُ لهذهالمساعي، له تاريخ طويل. فهو يَتَمَثَّلُ الصحاري ليس فقط كمجال قفر وفراغ، وغنيبالموارد القابلة للاستخراج، ولكن أيضا كمساحات آمنة لكتم الأسرار، حيث يَبْقَى كلما يحدث في الصحاري في طَيِّ كُتْمَانِ الصَّحَارِي. وغَالِبًا ما يُنظر إلىالصحراء بشكل خاطئ، عَلَى أَنَّها مَجَال مُغلق ومَعْزُول يسهل إخفاء الأشياء فيه.غير أنني كَمَا أُوَضِّحُ في كتابي القادم "خيالات لصحراء"،لطالما يتم إضفاء طابع "العذرية" و"الجِدّة" على الصحاريلإيوَاءِ وتَسْهِيلِ أنشطة استخراجية لا تُعدُّ ولاَ تُحْصى أضحت الصحراء مسرحالها. هذا ويزعم الفيديو الترويجي السابق الذكر ل "مازن" بأنه" قبلتدخل مازن والمكتب الوطني للكهرباء، كانت هذه الأراضي القاحلة خالية من أي نشاط.  لقد كانت الرياح تهب على الجبال دون أن تدير أي توربينات وكانت المياه فيالأنهار تجري من دون أن يتم تخزينها في حقينة السدود". مثل هذه التصريحاتيُمكن اعتبارها سَلِيلَة التفكير الاستعماري حول الصحاري كمجالات مفتوحة للاستغلالبل وصديقة لأنشطة استخراج المعادن وغيرها من الخيرات التي تزخر بها. وتكشف، في نفسالآن، على غَلَبَة التَمَثُّلاَت الصحراوية وتَغَلْغُلها حتى في المواقع التيتتميز بوجود وعي عال بمخاطرها.

"عينسورون"

كتاب برواوْر المعنون ب"صحراء كنيتها السلام"

إن صُور عذريةالصحراء وعَدم صلاحيتها يَطْمُس التاريخ الطويل للنشاط الرعوي والبَدَاوَة علىالأرض. أما الرُّعاة الذين اعتادوا عبور هذه الأفدنة مع أغنامهم، فلم يَعُد أحديَعْتَدُّ بهم أو يَأْبَهُ لأمرهم في عصر الطاقة الشمسية، التي صارت تُسخِّر التقنياتالمتقدمة لحصاد أشعة الشمس. ثُمَّ إن أسلوب الحياة الذي اعتبره الصحراويون دوما منالمسلمات، بات الآن عديم الفائدة في نظر جَهَابِذَة علماء الطاقة الشمسية الذينيُعيدون كتابة التاريخ على أساس مُساهمة الأرض في أنماط لا حَصْرَ لها من الأنشطة الاستخراجيةوالتعدينية. هذا التوجه نفسه الذي يسعى لإحداث تحولات عظمى في الصحراء يُؤسس لتصريحكانت قد أدْلَت به رئيسة قسم التصميم الفني فيMASEN عندما تَفَاخَرت بنجاح المشروع في "تحويل أرض قفر وعقيمة، بل وغيرصالحة للاستعمال إلى مجال أخضر يضم منشأة قادرة على انارة بيوت وتحسين نمط حياةالعديد من الأسر". إن مثل هذا الإصرار بان الأرض قاحلة جدباء، ليس مجازاجديدا عند الحديث عن الصحاري. فَلَطَالَمَا كان ينظر إلى الصحاري على أنها أراضيبياض تفتح المجال أمام المُخترعين والبَاحثين في جميع المجالات لتَرْك بَصَمَاتِهممن خلال اختبار أية تقنية أو اختراع كفيل بأن يغير مسار تاريخ البشرية. وبهذاالصدد وبشكل مُقنع يُجادل المؤرخ بنيامين براوْرْ في كتابه "صحراء كنيتهاالسلام"، بأن الصحراء لم تَرْتَبِط بالرغبات وحسب، بل اقْتَرَنَت أيضا بأشكالمُختلفة من العُنف الذي يُمَارَس ضد الناس والأفكار والممتلكات والبيئة".

وبما أن عصر"الطاقة" بصدد اعادة تشكيل التركيبة البصرية والمجالية لمَسْقِطِ رأسي،فهناك خطر حقيقي من أن تُلْقِيَ الحداثة الشمسية بظِلاَلِهَا على التاريخ الثقافيالغني للمنطقة. لاَ أحد يُجادل في أن عَالَمَنا سيكون مَكَانًا أفضل متى شَهِدَانْبِعَاثَاتِ غَازٍ أَقَلّ. وكُلَّما ازداد أعداد الناسُ القَادرين على الحد منتأثير ظاهرة الاحتباس الحراري على البيئة، كَان ذَلِك أفضل وأنفع لكَوْكَبِنَا الأرض.وَمَعَ ذلك، علينا أيضا أن نَنْتَبِهَ إلى حقيقة ثابتة وهي أن إنتاج طَاقَة أَنْظَفيُؤَثِّر سلبا على المجتمعات التي يتم الاستيلاء على أراضي أهاليها من أجل توليدهذه الطاقة القابلة للتصدير. هذا وكُلَّما نَظَرْتُ الى منشأة "الطاقة" أوبالأحرى، كلما نظرت اليها مَلِيًّا، نَظَرَت إِلَيّ بِشُمُوخٍ. ولم يسعني إلا أنأعرب عن قَلَقِي بشَأْن التواريخ المحلية التي لا حصر لها التي قَد يَطْوِيهَا النِّسْيَانُ.وقد شهدت "ورزازات" بالفعل، العديد من عمليات طَمْس الهَوِيَّة، التي جاءتنتيجة لإحداث استوديو عالمي للتصوير السينمائي في الهواء الطلق، خِدْمَةًلصَانِعِي أَفْلاَمِ هُولِيوُود. وفِي سَعْيها للاستئثار بالمناظر الأخاذة للواحاتوالصحاري، أَبْرَزت الأفْلاَم المُصَوَّرَة هناك مناظر صحراوية طبيعية تُمَثِّلٌ، تارة،الجزيرة العربية القديمة، وتارة أخرى، اليمن التي مَزَّقَتْهَا الحرب، أو فلسطينكما كانت في زمن التوراة، أو الصحراء كمسرح للمعارك التي كانت قد دارت بها ابان الحربالعالمية الثانية، وغير ذلك. أَمْسَت هوية الصحراء، باعتبارها فضاءا تاريخيا ربط اسمالمغرب بالصحراء وبالدور الذي لعبه في الاستراتيجيات الاستعمارية، هوية يلفها بعضالغُمُوض وتَحْجُبُها المَشَاهِد السينمائية الدولية ذات التأثير الواسع. ثم جاءت"الطاقة" لتزيد الوضع تعقيدا، حيث تم بالفعل تَصْويرُ المجال الرعوي، الذيكان قد اسْتُخْدِم لهذا الغرض ولأجيال متتالية، وتقديمه من قبل الخبراء التكنوقراطيينفي خِطَابَاتِهم على أساس أنه مجرد مجال مُتكون من أراض عَذْرَاء أو عَقِيمَة. وأمستالقرى الزَّاخِرَة بالتَّاريخِ، بفعل ما شهدته من أحداث تاريخية مُهمة،مُتَوَارِية عن الأنظار خلف الجبال، حيث أضحت القصبات التي يعود تاريخها لقرون،تَتَهَاوَى ليطويها النسيان. ومِنَ المُتَوَقَّع أن تعمق تكنولوجيا الطاقة الشمسيةالحديثة من درجات التَّهْمِيشِ الذي طَالَ هَذِه القُرى. مَنْ، يا تُرَى،سَيَذْكُر "الكْلاَوِي" وحُكمه الطويل في المنطقة؟ وَمَنْ سَيَذْكُرأَنَّ السَّدَ الذي يُغَذِّي المُركب الطاقي الهائل بالمياه، كان يضم زنزاناتلإيواء السجناء السياسيين في سبعينيات القرن الماضي؟ ومن سيذكر أن الجنرالالمذبوح، الذي عُيِّن عاملا على "ورزازات" بعد استقلال البلاد، كان هوالعقل المُدبر للانقلاب العسكري الأول ضد الملك الحسن الثاني؟ هذا الكلام لا يعنيأن وكالة الطاقة الشمسية بصدد محو التاريخ بشكل ممنهج، ولكن ثمة خطر من أن يأتييوم لن يذكر فيه الناس سوى استوديوهات السينما والمركب الطاقي العالي-التقنية،كمعالم جديرة بالاهتمام في هذه المنطقة. فالزائر الذي لا يرى سوى "عينسورون" العالمية، التي تتربص به في كل مكان، قد يُغادر "ورزازات" ظانًّاأن المدينة مُجرد فضاء لتصوير للأفلام السينمائية وتوليد الطاقة الشمسية.  كما أن وجود البٌرج المُتَغَطْرِس الشامخ يُعَزِّزُ الشعور بفُقدان الذاكرة.ذلك لأنه حتى مع تضاؤل عدد المواقع المحلية ذات الأهمية التاريخية نتيجة الإهمال،ف"الطاقة" تتوهج كل يوم بإشراف جيش من الفنيين والمهندسين المُتَفَانِينفي عملهم. ثم إن الطبيعة المهيبة للمركب تُربك العقل ولا تُسعف المرء في طرح أسئلةنقدية حول الأرض وملكيتها. 

صورة لقصبة تيفولتوت التي كانت من مراكز حكم الكلاوي

بغُروب الشمس، تختفيمُنشأة "الطاقة" عن الأنظار وتتوقف عيناها عن التوهج حتى وإن كانتالطاقة المُخزنة خلال النهار تستمر في توليد الكهرباء لمدة سبع ساعات إضافية بعدالغروب. وبسبب وجوده في كل مكان خلال النهار، لم يسعني إلا أن أطيل النظر عَلَّنِيأحدد موقع البُرج في الليل، فقط لأدرك بأن البرج شبيه بطائر الفينيق المُوارب؛ يظهرخلال النهار فقط ليختفي في الليل. عادت بي ذاكرتي إلى طفولتي في قريتي التي لم تكنتتوفر على كهرباء في ثمانينيات القرن الماضي. كُنا ننتظر بحماس غروب الشمس من أجلتشكيل دائرة حول النار أو "لامبا"(المصباح) لسماع حكايات من أفواه والدينا.  أما الآن بعد أن أغشى غروب الشمس البرج، وانطفأ ضوئه ليلا، تَسَاءَلْتُ عنطبيعة وفحوى الحكايات التي يرويها الشيوخ لأحفادهم، إن هي وُجدت، أصلا. ثم تساءلتعما إذا كان الجد أو الجدة في مكان ما في القُرى الأقرب إلى قلبي يَسْتَهِلُّالحكاية، قائلا: "في سالف الزمان، كان بوسعنا الوصول إلى أرضنا..." لميكن هناك سبيل لمعرفة الجواب عن تساؤلاتي، إلا أن الأمل يحدوني بأن تنتقل قصةالأرض وأصحابها إلى القادم من الأجيال.

في غضون ذلك أذكر أنالشيء الوحيد الذي كنت أعرفه على وجه اليقين هو أن منشأة "الطاقة" قدتعقبتني حتى حِينما كُنْتُ أَهُمُّ بركوب الطائرة في صباح اليوم المُوالي، وكانتالمنشأة المعلمة الأكثر وضوحا وحضورا في المدينة وقت اقلاع الطائرة التي ستقلني فياتجاه الدار البيضاء.

*يمكن للقراء الاطلاععلى النص الأصلي باللغة الإنجليزية لهذا المقال في الرابط التالي:
https://themarkaz.org/reconciling-ouarzazate-with-solar-energy-in-our-desert-town/